فصل: الآية الرابعة عشرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الآية الرابعة عشرة:

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}.
في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ} دلالة على أن هذا الذي أحله اللّه كان حراما عليهم- وهكذا كان- كما يفيده السبب لنزول الآية.
والرفث: كناية عن الجماع. قال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وعدى الرفث بإلى لتضمينه معنى الإفضاء، وجعل النساء لباسا للرجال والرجال لباسا لهن لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع كالامتزاج الذي يكون بين الثوب ولابسه.
يقال: خان واختان بمعنى، وهما من الخيانة وإنما سماهم خائنين لأن ضرر ذلك عائد عليهم.
وقوله: {فَتابَ عَلَيْكُمْ} يحتمل معنيين: أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم، والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة.
وهكذا قوله: {وَعَفا عَنْكُمْ} يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل.
وقوله: {وَابْتَغُوا} قيل: هو الولد، أي ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح وهو حصول النسل، وقيل: ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه- قاله الزجاج وغيره- وقيل: الرخصة والتوسعة، وقيل: الإماء والزوجات، وقيل: غير ذلك مما لا يفيده النظم القرآني ولا دل عليه دليل.
والمراد بالخيط الأبيض: هو المعترض في الأفق، لا الذي هو كذب السرحان فإنه الفجر الكذاب الذي لا يحلّ شيئا ولا يحرمه.
والمراد بالخيط الأسود: سواد الليل. والتبيين إنما يمتاز أحدهما عن الآخر، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر.
وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} أمر للوجوب، وهو يتناول كل الصيام، وخصه الشافعية بالفرض لورود الآية في بيانه، ويدل على إباحة الفطر من النفل حديث عائشة عند مسلم من أنه أهدي لنا حيس فقال أرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل.
وأيضا فيه التصريح بأن للصوم غاية هي الليل: فعند إقبال الليل من المشرق وإدبار النهار من المغرب يفطر الصائم ويحل له الأكل والشرب وغيرهما.
والمراد بالمباشرة هنا: الجماع، وقيل يشمل التقبيل واللمس إذا كانا بشهوة لا إذا كانا بغير شهوة فهما جائزان كما قال عطاء والشافعي وابن المنذر وغيرهم، وعلى هذا يحمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل، فتكون هذه الحكاية للإجماع مفيدة بأن يكونا بشهوة.
والاعتكاف في اللغة: الملازمة. وفي الشرع: ملازمة مخصوصة على شرط مخصوص. وقد وقع الإجماع على أنه ليس بواجب وعلى أنه لا يكون إلا في المسجد. وللاعتكاف أحكام مستوفاة في شروح الحديث ذكرنا طرفا منها في شرح بلوغ المرام، ورويت في بيان سبب نزول هذه الآية أحاديث عن جماعة من الصحابة ذكرها الشوكاني في فتح القدير فليرجع إليه.

.الآية الخامسة عشرة:

{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}.
هذا يعم جميع الأمة وجميع الأموال، لا يخرج عن ذلك إلا ما ورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل ومأكول بالحل لا بالإثم، وإن كان صاحبه كارها كقضاء الدين إذا امتنع منه من هو عليه، وتسليم ما أوجبه اللّه من الزكاة ونحوها ونفقة من أوجب الشرع نفقته.
والحاصل أن ما لم يبح الشرع أخذه من مالكه فهو مأكول بالباطل وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغيّ وحلوان الكاهن وثمن الخمر.
والباطل في اللغة: الذاهب الزائل. والمعنى أنكم لا تجمعوا بين أكل الأموال بالباطل وبين الإدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة.
وفي هذه الآية دليل على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال من غير فرق بين الأموال والفروج، فمن حكم له القاضي بشيء مستندا في حكمه إلى شهادة زور ويمين فجور- فلا يحل له أكله فإن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وهكذا إذا ارتشى الحاكم فحكم له بغير الحق فإنه من أكل أموال الناس بالباطل.
ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال.
وقد روي عن أبي حنيفة ما يخالف ذلك، وهو مردود بكتاب اللّه تعالى وسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كما في حديث أم سلمة قالت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إنكم تختصمون إليّ ولعل أن يكون بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» وهو في الصحيحين وغيرهما.
{فَرِيقًا} أي قطعة أو جزءا أو طائفة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى هذا، قال: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه بيّنة فيجحد بالمال فيخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه.
وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن مجاهد قال: معناها: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم.
وأخرج ابن المنذر عن قتادة نحوه.

.الآية السادسة عشرة:

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}.
الأهلة: جمع هلال، وجمعها باعتبار هلال كل شهر أو كل ليلة تنزيلا لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات.
والهلال: اسم لما يبدو في أوّل الشهر وفي آخره، وفيه بيان وجه الحكمة في زيادة الهلال ونقصانه وأن ذلك لأجل بيان المواقيت التي يوقت الناس عباداتهم ومعاملاتهم به كالصوم والفطر والحج ومدّة الحمل والعدّة والإجارات والأيمان وغير ذلك، ومثله قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} [يونس: 5].
والمواقيت: جميع الميقات وهو الوقت، وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب- أعني قوله: {قُلْ هِيَ مَواقِيتُ}- من الأسلوب الحكيم: وهو تلقي المخاطب بغير ما يرتقب تنبيها على أنه الأولى بالقصد.
ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ونقصانها فأجيبوا بالحكمة التي كانت الزيادة والنقصان لأجلها، لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل، وأحق بأن يتطلع لعلمه، وأن الأنصار كانوا إذا حجوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز أن يحول بينه وبين السماء حائل، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم.
وقال أبو عبيدة إن هذا ضرب من ضرب المثل. والمعنى: ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن البرّ التقوى، وأن تسألوا العلماء، كما تقول: أتيت هذا الأمر من بابه. وقيل: هو مثل في جماع النساء وأنهم أمروا بإتيانهن في القبل لا في الدبر، وقيل غير ذلك.

.الآية السابعة عشرة:

{وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}.
لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعا قبل الهجرة لقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13]، وقوله: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)} [المزمل: 10]، وقوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 22]، وقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96]، ونحو ذلك مما أنزل بمكة. فلما هاجر إلى المدينة أمره اللّه سبحانه بالقتال ونزلت هذه الآية، وقيل: إن أول ما نزل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] فلما نزلت الآية كان صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقاتل من قاتله ويكفّ عمن كفّ عنه حتى نزل قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وقوله تعالى: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]. قيل: إنه نسخ بها سبعون آية.
وقال جماعة من السلف: إن المراد بقوله: {الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} من عدا النساء والصبيان والرهبان ونحوهم، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة.
والمراد بالاعتداء- عند أهل القول الأول- هو: مقاتلة من لم يقاتل من الطوائف الكفرية، والمراد به- على القول الثاني- مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه.

.الآيتان الثامنة والتاسعة عشرة:

{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}.
قال ابن جرير: الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش. انتهى.
وقد امتثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أمر ربه فأخرج من مكة من لم يسلم عند أن فتحها اللّه عليه. وفي معنى الفتنة والمراد بها أقوال: والظاهر أن المراد الفتنة في الدين بأي سبب كان وعلى أي صورة اتفق فإنها أشد من القتل.
واختلف أهل العلم في قوله: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} فذهبت طائفة إلى أنها محكمة وأنه لا يجوز القتال في الحرم إلا بعد أن يتعدى متعد بالقتال فيه فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة، وهذا هو الحق.
وقالت طائفة: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ويجاب عن هذا الاستدلال بأن الجمع هنا ممكن ببناء العام على الخاص: فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم. ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إنها لم تحلّ لأحد قبلي وإنها أحلت لي ساعة من نهار»، وهو في الصحيح.
وقد احتج القائلون بالنسخ بقتله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ويجاب عنه بأنه وقع في تلك الساعة التي أحل اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم ودخلوا في الإسلام.

.الآية الموفية العشرين:

{وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}.
فيه الأمر بمقاتلة المشركين ولو في الحرم وإن لم يبتدءوكم بالقتال فيه إلى غاية هي أن لا تكون فتنة وأن يكون الدين للّه: وهو الدخول في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المخالفة له. فمن دخل الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله.
قيل المراد بالفتنة هنا: الشرك، والظاهر أنها الفتنة في الدين- على عمومها- كما سلف.
والمراد لا تعتدوا إلا على من ظلم وهو من لم ينته عن الفتنة ولم يدخل في الإسلام. وإنما سمى جزاء الظالمين عدوانا مشاكلة كقوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} [الشورى: 40]، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194].

.الآية الحادية والعشرون:

{الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}.
أي إذا قاتلوكم في الشهر الحرام وهتكوا حرمته فقاتلتموهم في الشهر الحرام مكافأة لهم ومجازاة على فعلهم.
والحرمات: جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة. وإنما جمع الحرمات لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام.
والحرمة: ما منع الشرع من انتهاكه.
والقصاص: المساواة. والمعنى: أن كل حرمة يجري فيها القصاص، فمن هتك حرمتكم عليكم فلكم أن تهتكوا حرمته عليه قصاصا. قيل: وهذا كان في أول الإسلام ثم نسخ بالقتال وقيل: إنه ثابت بين أمة محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم ينسخ فيجوز لمن تعدّي عليه في مال أو بدن أن يتعدّى بمثل ما تعدّي عليه، وبهذا قال الشافعي وغيره.
وقال الآخرون: إن أمور القصاص مقصورة على الحكام، وهكذا الأموال لقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» أخرجه الدارقطني وغيره وبه قال أبو حنيفة وجمهور المالكية وعطاء الخراساني.
والقول الأوّل أرجح، وبه قال ابن المنذر واختاره ابن العربي والقرطبي وحكاه الداودي عن مالك، ويؤيده أنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أباح لامرأة أبي سفيان أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها، وهو في الصحيح.
ولا أصرح وأوضح من قوله تعالى في هذه الآية: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} وهذه الجملة في حكم تأكيد الجملة الأولى أعني قوله: {وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ}. وإنما سمى المكافأة اعتداء مشاكلة كما تقدم.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم معتمرا في سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون من الدخول والوصول إلى البيت وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة- وهو شهر حرام- قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان معه من المسلمين وأقصّه اللّه منهم ذلك في هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه أيضا، وأخرج أيضا عن قتادة نحوه، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه.
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ} الآية، وقوله: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ} [الشورى: 40]، وقوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى: 41]، وقوله: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ} [النحل: 126]، قال: هذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل ليس لهم سلطان يقهر المشركين فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى. فأمر اللّه المسلمين من يجازي منهم أن يجازي بمثل ما أوتي إليه أو يصبروا ويعفوا. فلما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى المدينة وأعزّ اللّه سلطانه أمر المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، ولا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية فقال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا} [الإسراء: 33]. يقول ينصره السلطان حتى ينصفه ممن ظلمه. ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف قد عمل بحمية الجاهلية ولم يرض بحكم اللّه. انتهى.
وأقول: هذه الآية التي جعلها ابن عباس رضي اللّه عقنه ناسخة مؤيدة لما تدل عليه الآيات التي جعلها منسوخة ومؤكدة له، فإن الظاهر من قوله: {فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا} أنه جعل السلطان له، أي جعل له تسلطا يتسلط به على القاتل، ولهذا قال: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}. ثم لو سلمنا أن معنى الآية كما قاله لكان ذلك مخصصا للقتل من عموم الآيات المذكورة لا ناسخا لها فإنه لم ينص في هذه الآية إلا على القتل وحده.
وتلك الآيات شاملة له ولغيره، وهذا معلوم من لغة العرب التي هي المرجع في تفسير كلام اللّه سبحانه وتعالى.